الأزمة المالية الحالية





كتب الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي مقالاً ضافيًا.. شرح فيه الأزمة
المالية الحالية، وهذا نص المقال على عدة أجزاء:
الجزء الأول:
الأزمة المالية الحالية محاولة للفهم

مقدمة بقلم د. حازم الببلاوي
يقف العالم مشدوهاً أمام ما يطلق عليه “الأزمة المالية” العالمية، فأكبر
اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية) مهدد بالانزلاق إلي هاوية
الكساد والإفلاس، ومن من؟
من أكبر وأعرق المؤسسات المالية الدولية في أمريكا وأوروبا، فكيف حدث
ذلك؟ ولماذا هي “أزمة مالية” أكثر منها “أزمة اقتصادية”؟ فهي أزمة في
القطاع المالي ولكنها تهدد بإغراق الاقتصاد بأكمله. فكيف ولماذا؟
كل هذه أسئلة تقلق القارئ العادي الذي يريد أن يفهم. وقد طلب مني
الكثيرون أن أحاول أن أقدم تفسيراً مبسطاً يساعد القارئ غير المتخصص علي
فهم ما يجري أمامه من أحداث تبدو غير واضحة.
ونظراً لأنني أعتقد أن أهم أسباب عدم الفهم ترجع عادة إلي غموض
“البدهيات” والمبادئ الأولية لعلم الاقتصاد، فلذلك فلا أجد غضاضة في أن
أبدأ بشرح هذه المبادئ الأولية.
تتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه
“الاقتصاد العيني أو الحقيقي” وبين “الاقتصاد المالي”. فأما الاقتصاد
العيني “وهو ما يتعلق بالأصول العينية Real Assets فهو يتناول كل الموارد
الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق
غير مباشر (السلع الاستثمارية).
“فالأصول العينية” هي الأراضي وهي المصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء،
وهي أيضاً القوي البشرية. وبعبارة أخري هي مجموع السلع الاستهلاكية التي
تشبع حاجات الإنسان مباشرة من مأكل وملبس وترفيه ومواصلات وتعليم وخدمات
صحية.
ولكنها أيضاً تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع (الاستثمارية) من مصانع
وأراض زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. إلخ. وهكذا فالاقتصاد العيني أو
الأصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية
وتقدمها.
وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد
اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل
لابد أن يزود بأدوات مالية تسهل عمليات التبادل من ناحية، والعمل المشترك
من أجل المستقبل من ناحية أخري.
ومن هنا ظهرت الحاجة إلي “أدوات” أو “وسائل” تسهل التعامل في الثروة
العينية. لعل أولي صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة “الحقوق” علي
الثروة العينية. فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية وهي التي تنتج
المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن
وأحياناً الملبس.
ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض علي رأسك لكي
تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً
اسمه “حق الملكية” علي هذه الأرض. فهذا “الحق القانوني” يعني أن يعترف
الجميع بأنك (المالك) الوحيد صاحب الحق في استغلال هذه الأرض والتصرف
فيها.
وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه “الأصول المالية” Financial assets،
باعتبارها حقاً علي الثروة العينية.
وأصبح التعامل يتم علي “الأصول المالية” باعتبارها ممثلاً للأصول
العينية.
فالبائع ينقل إلي المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية
العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية. وأصبح التعامل
الذي يتم علي هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كافيا لكي تنتقل ملكية
الأصول العينية (الأرض) من مالك قديم إلي مالك جديد.
ولم يتوقف الأمر علي ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن
التبادل عن طريق “المقايضة” ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخري أمر
معقد ومكلف، ومن ثم ظهرت فكرة “النقود” التي هي أصل مالي، بمعني أنها
بمثابة “حق” ليس علي أصل بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق
علي الاقتصاد العيني كله. فمن يملك نقوداً يستطع أن يبادلها بأي سلعة
معروضة في الاقتصاد.
أي أن “النقود” أصبحت أصلا ماليا يعطي صاحبه الحق في الحصول علي ما يشاء
من الاقتصاد، أي من السلع والخدمات المعروضة في الاقتصاد. والنقود في
ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل، ولا تشبع حاجة
الملبس أو المسكن أو غير ذلك من متاع الحياة، فقط الاقتصاد العيني من سلع
وخدمات يسمح بذلك.
ولكن النقود باعتبارها حقاً علي الاقتصاد العيني تسمح بإشباع الحاجات
الحقيقية بمبادلتها مع الأصول العينية (السلع)، أي أن “النقود” هي أصل
مالي أو حق علي الأصول العينية، فهي ممثل عن الاقتصاد العيني، ولكن
وجودها والتعامل بها يساعد علي سهولة التبادل والمعاملات في السلع
العينية.
ولم يتوقف تطور “الأصول المالية” علي ظهور حق الملكية أو ظهور النقود
كحقوق مالية علي موارد عينية محددة أو علي الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشفت
البشرية أيضاً أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم
يعد مقصوراً علي عدد محدود من الأفراد أو القطاعات، فالقابلية للتداول
Negotiability ترفع القيمة الاقتصادية للموارد. ومن هنا ظهرت أهمية أن
تكون هذه الأصول قابلة للتداول.
وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق
الملكية علي بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل
دائنية علي مدين معين (فرد أو شركة). وقد تطورت أشكال الأصول المالية
الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال
الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية
والسندات.
وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات مما زاد من
حجم الأصول المالية المتداولة والتي تمثل الثروة العينية للاقتصاد. وساعد
وجود هذه الأصول المالية المتنوعة علي انتشار وتوسع الشركات وتداول
ملكيتها وقدرتها علي الاستدامة.
ولكن الأمر لم يقتصر علي ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات
وأوراق تجارية) بل ساعد علي انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر
هذه الأصول باسمها وحيث تتمتع بثقة الجمهور مما أدي إلي زيادة تداول هذه
الأسهم والسندات بين الجمهور.
فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذه الأصول المالية مما أعطي
المتعاملين درجة من “الثقة” في سلامة هذه الأصول المالية، ومن ناحية أخري
فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تمول الأفراد فإنها
تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدي الجمهور
محل مديونية عملائها. فالعميل يتقدم للبنك للحصول علي تسهيل أو قرض،
ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلي ملاءة هذا العميل والثقة فيه،
ولكن ما إن يحصل العميل علي تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا التسهيل كما
لو كان نقوداً لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد. وهكذا فإن البنوك
تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلي مديونيات عامة تتمتع بثقة كبيرة لدي
الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك.
وهكذا لعب القطاع المصرفي - والقطاع المالي بصفة عامة - دوراً هائلاً في
زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها. ومن هنا بدأت
بوادر أو بذور الأزمات المالية وهي بدء انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي
والاقتصاد العيني. فالتوسع المالي بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية
المتنوعة بشكل مستقل عن الاقتصاد العيني وأصبحت للأسواق المالية حياتها
الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني..
ومن هنا تظهر حقيقة الأزمة المعاصرة باعتبارها أزمة “مالية” بالدرجة
الأولي نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية علي نحو مستقل ـ إلي حد
كبير ـ عما يحدث في “الاقتصاد العيني”،
كيف؟
يرجع ذلك إلي المؤسسات المالية التي أسرفت في إصدار الأصول المالية بأكثر
من حاجة الاقتصاد العيني، ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الأصول
المالية، زاد عدد المدينين، وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن
السداد، وهناك ثلاثة عناصر متكاملة يمكن الإشارة إليها وتفسر هذا التوسع
المجنون في إصدار الأصول المالية.
أما العنصر الأول فهو زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم الرافعة
المالية Leverage، فما هو المقصود بذلك؟
أشرنا إلي أن هناك نوعين من الأصول المالية، أصول تمثل الملكية وأصول
تمثل مديونية، أما الأصول التي تمثل الملكية فهي أساساً ملكية الموارد
العينية من أراض ومصانع وشركات، وهي تأخذ عادة شكل أسهم،
وبالنسبة لهذا الشكل من الأصول المالية فهناك ـ عادة ـ حدود لما يمكن
إصداره من أصول للملكية، حقاً أنه يمكن المبالغة بإصدار أسهم بقيم مالية
مبالغ فيها عن القيمة الحقيقية للأصول التي تمثلها، ولكن يظل الأمر
محدوداً، لأنه يرتبط بوجود هذه الأصول العينية، أما بالنسبة للشكل الآخر
للأصول المالية وهو المديونية، فيكاد لا توجد حدود علي التوسع فيها، وقد
بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية، وكانت
التجارب السابقة قد فرضت ضرورة وضع حدود علي التوسع في الاقتراض،
ومن هنا فقد استقرت المبادئ السليمة للمحاسبة المالية علي ربط حدود
التوسع في الاقتراض بتوافر حد أدني من الأصول المملوكة، فالمدين يجب أن
يتملك حداً أدني من الثروة حتي يستدين، وأن يتوقف حجم استدانته علي حجم
ملكيته للأصول العينية،
ولذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة علي البنوك حدود التوسع في الإقراض
للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لهذه البنوك، فالبنك لا
يستطيع أن يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأسمال واحتياطي وهو ما
يعرف بالرافعة المالية.
ورغم أن البنوك المركزية تراقب البنوك التجارية في ضرورة احترام هذه
النسب، فإن ما يعرف باسم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة لا يخضع
لرقابة البنك المركزي،
ومن هنا توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من ستين ضعف حجم رؤوس
أموالها كما في حالة UBS، ويقال إن الوضع بالنسبة لبنك Lyman كان أكبر،
وهذه الزيادة الكبيرة في الاقتراض تعني مزيداً من المخاطر إذا تعرض بعض
المدينين لمشكلة في السداد كما حدث بالنسبة للأزمة العقارية، كما سنشير.
ولكن لماذا تتوسع المؤسسات المالية في الإقراض والاقتراض؟
لسبب بسيط، الجشع greed، فمزيد من الإقراض والاقتراض يعني مزيداً من
الأرباح، أما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الإقراض فهي لا تهم مجالس
الإدارة في معظم هذه البنوك، والتي تهتم فقط بالأرباح قصيرة الأجل، حيث
يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها ومكافآت
مالية سخية لرؤساء البنوك، وهكذا أدي الاهتمام بالربح في المدة القصيرة
إلي تعريض النظام المالي للمخاطر في المدة الطويلة.
ولكن التوسع في الإقراض لا يرجع فقط إلي تجاهل اعتبارات الحدود للرافعة
المالية لكل مؤسسة، بل إن النظام المالي في الدول الصناعية قد اكتشف
وسيلة جديدة لزيادة حجم الإقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات
المالية financial derivatives،
وهو اختراع يمكن عن طريقه توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناء
علي أصل واحد كما سيتضح من المثال الذي سوف نعرضه عن تركيز الإقراض علي
قطاع أو قطاعات محدودة، فماذا حدث في هذا المجال، وهو المرتبط بما يعرف
بأزمة الديون العقارية؟
ولدت الأزمة الأخيرة نتيجة ما أطلق عليه أزمة الرهون العقارية، فالعقارات
في أمريكا هي أكبر مصدر للإقراض والاقتراض، فالحلم الأمريكي لكل مواطن هو
أن يملك بيته، ولذلك فهو يشتري عقاره بالدين من البنك مقابل رهن هذا
العقار، والأزمة بدأت فيما عرف بالرهون العقارية الأقل جودة subprime،
فماذا حدث؟
يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار،
فيحاول صاحب العقار الحصول علي قرض جديد نتيجة ارتفاع سعر العقار، وذلك
مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية، ومن هنا التسمية بأنها الرهون الأقل
جودة، لأنها رهونات من الدرجة الثانية،
وبالتالي فإنها معرضة أكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، ولكن
البنوك لم تكتف بالتوسع في هذه القروض الأقل جودة، بل استخدمت “المشتقات
المالية” لتوليد مصادر جديدة للتمويل، وبالتالي للتوسع في الإقراض.. كيف؟
عندما يتجمع لدي البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، فإنه يلجأ إلي
استخدام هذه “المحفظة من الرهونات العقارية” لإصدار أوراق مالية جديدة
يقترض بها من المؤسسات المالية الأخري بضمان هذه المحفظة، وهو ما يطلق
عليه التوريق securitization، فكأن البنك لم يكتف بالإقراض الأولي بضمان
هذه العقارات،
بل أصدر موجة ثانية من الأصول المالية بضمان هذه الرهون العقارية فالبنك
يقدم محفظته من الرهونات العقارية كضمان للاقتراض الجديد من السوق عن
طريق إصدار سندات أو أوراق مالية مضمونة بالمحفظة العقارية، وهكذا فإن
العقار الواحد يعطي مالكه الحق في الاقتراض من البنك، ولكن البنك يعيد
استخدام نفس العقار ضمن محفظة أكبر، للاقتراض بموجبها من جديد من
المؤسسات المالية الأخري،
وهذه هي المشتقات المالية، وتستمر العملية في موجة بعد موجة، بحيث يولد
العقار طبقات متتابعة من الإقراض بأسماء المؤسسات المالية واحدة بعد
الأخري، هكذا أدي تركز الإقراض في قطاع واحد “العقارات” علي زيادة
المخاطر، وساعدت الأدوات المالية الجديدة “المشتقات” علي تفاقم هذا الخطر
بزيادة أحجام الإقراض موجة تلو الموجة.
ويأتي العنصر الثالث والأخير وهو نقص أو انعدام الرقابة أو الإشراف
الكافي علي المؤسسات المالية الوسيطة. حقاً تخضع البنوك التجارية في معظم
الدول لرقابة دقيقة من البنوك المركزية،
ولكن هذه الرقابة تضعف أو حتي تنعدم بالنسبة لمؤسسات مالية أخري مثل بنوك
الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية أو الرقابة علي المنتجات المالية
الجديدة مثل المشتقات المالية أو الرقابة علي الهيئات المالية التي تصدر
شهادات الجدارة الائتمانية، وبالتالي تشجع المستثمرين علي الإقبال علي
الأوراق المالية.
وقد تكاتفت هذه العناصر علي خلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها علي
التأثير علي القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في
الأصول المالية، بل إنه هدد أحد أهم عناصر هذا القطاع وهو “الثقة”، فرغم
أن العناصر الثلاثة المشار إليها ـ زيادة الاقتراض، وتركيز المخاطر، ونقص
الرقابة والإشراف ـ كافية لإحداث أزمة عميقة،
فإن الأمور تصبح أكثر خطورة إذا فقدت الثقة أو ضعفت في النظام المالي
الذي يقوم علي ثقة الأفراد، ويزداد الأمر تعقيداً نتيجة للتداخل بين
المؤسسات المالية في مختلف الدول، فجميع المؤسسات المالية ـ وبلا استثناء
ـ تتعامل مع بعضها البعض، وأي مشكلة عويصة تصيب إحدي هذه المؤسسات، لابد
أن تنعكس بشكل مضاعف علي بقية النظام المالي العالمي “العولمة”.
وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في
القطاع المالي في الولايات المتحدة ومن ورائه في بقية دول العالم
المتقدم، والسؤال: هل يمكن التجاوز عن هذا الاقتصاد المالي بأدواته
المتعددة ومؤسساته الكثيرة؟ للأسف لا يمكن.
الأصول المالية أصبحت مثل الدورة الدموية في الجسم، فلا يكفي أن يكون في
جسم الإنسان أعضاء رئيسية مثل القلب والمعدة والرئتين، بل لابد من دورة
ددموية تنقل الغذاء وتطلق الحركة في جسم الإنسان، وهكذا أصبح الاقتصاد لا
يكتفي بالمصانع والأراضي الزراعية، بل إن ما يحركها هو أصول مالية مثل
الأسهم والسندات والنقود، وهناك الادخار والاستثمار الذي يتحقق من خلال
أدوات مالية، ولذلك فإن علاج الأزمة المالية ضروري ولا يمكن تجاهله.

لجزء الثاني من مقال الأزمة المالية
بقلم الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي
الأزمة الحالية
بداية الأزمة الجديدة انطلقت مع إعلان مؤسسة مالية عملاقة، هي "ليمان
براذرز" عن إفلاسها الوقائي، وهذه كانت بداية رمزية خطرة، لأن هذه
المؤسسة العريقة كانت من الشركات القليلة التي نجت من مذبحة الكساد
الكبير في عام 1929، وتعتبر من أقدم المؤسسات المالية الأمريكية، التي
تأسست في القرن التاسع عشر، وهذا ما أكّـد تنبُّـؤات ألن غرسيبان، رئيس
الاحتياطي الفدرالي الأمريكي السابق، بأن مؤسسات مالية كُـبرى جديدة
ستسير على درب "ليمان براذرز".
جذور الأزمة
لكن، ما أسباب هذه الأزمة؟
وهل هي عابرة سببها اضطراب سوق العقار أو انفصال الاقتصاد المالي عن
الاقتصاد الحقيقي أو انخفاض، ثم ارتفاع أسعار الفائدة أو "مجرّد حركة
تصحيحية في الأسواق المالية"
أم أنها معضلة بنيوية (كما ترى "فاينانشال تايمز" الرأسمالية) سببها
الأعمق العولمة النيو - ليبرالية المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا
تني تتوسّع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في
أسعار المواد الغذائية والطاقة؟
الأزمة الرّاهنة متفردة. كيف؟
خلال حقبة العولمة النيو - ليبرالية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين،
مرّت المراكز الرأسمالية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، بعملية "لا
تصنيع" أو نزع التصنيع (deindustrialization)، انتقلت بموجبها الرأسمالية
الغربية من الاعتماد على الأسواق المحلية - القومية إلى الشكل المُـتعولم
الحالي من العولمة عبر نقل الصناعات الثقيلة الملوّثة إلى الصين والهند
وغيرهما.
وترافق ذلك مع "تحرير" أسواق المال ونزع كل القيود المنظَمة لها، مما
أدّى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى "الجنّات الآسيوية" وأيضاً إلى تقسيم
عمل دولي جديد:
التكنولوجيا المتطورة والبحث والتطوير والسلع "الخاصة" (الخدمات المالية)
في المراكز الرأسمالية والعمليات الصناعية التقليدية في الأطراف.
هذا التطور لم يؤدِّ فقط إلى خلق بطالة واسعة النِّطاق في الغرب، بل
أيضاً إلى توسّـع هائل للأسواق المالية التي تعولمت بسرعة، فبات القطاع
المالي في بريطانيا، على سبيل المثال، مسؤولاً عن نصف النمو الاقتصادي،
وكذا الأمر بالنسبة للقطاع المالي – العقاري في أمريكا حتى عام 2006،
وكِـلا القطاعين اعتمدا بشكل كامل على المضاربة وليس على الاقتصاد
الحقيقي.
بدأت الأزمة بعد تزايد حدة قلق المتعاملين في أسواق المال بشأن الظروف
التي تمر بها أسواق الائتمان في العالم والتي أرجع المحللون معظمها إلى
المشاكل التي تعرضت لها سوق الإقراض العقاري الأمريكي المعروفة باسم "ساب
برايم" والتي تمنح للراغبين في السكنى من دون الاشتراط بأن يكون للمقترض
سجل مالي قوي، والتي ساهمت في تدهور أسعار الأسهم بشكل ملحوظ خلال الفترة
الماضية، وقد كانت أسهم القطاع المصرفي وعلى وجه التحديد بنوك يو بي إس،
وإتش إس بي سي، وباركليز قاطرة الانهيار في أسعار الأسهم، حيث كانت هي
الأكثر تضررا خلال الأزمة، وهو أمر لفت أنظار المحللين الماليين الذين
فسروا ذلك بأن المستثمرين في البورصة لا يعرفون أي البنوك معرضة لمشكلات
الائتمان العقاري ومدى خسائرها المحتملة، فبدأ الجميع في البيع بشكل
هستيري.
وعلى هذا الصعيد علقت قرابة 70 شركة رهن عقاري أمريكية عملياتها وأعلنت
إفلاسها أو عرضت للبيع منذ بداية العام الماضي 2006 وحتى الآن، وذكرت
شركة "كونتري فاينانشيال" أن مصاعب سوق الرهن العقاري أصبحت تهدد أرباحها
ووضعها المالي جديا، وأخيرا أعلنت شركة "هوم مورتجيج إنڤستمنت" إفلاسها،
وانخفضت الإيرادات ربع السنوية لشركة "تول بروذرز" العقارية، وأعلنت شركة
هوم ديبو العاملة في المجال العقاري توقع تراجع أرباحها أيضا بسبب تراجع
سوق العقارات السكنية.
 وعلى الرغم من كل الإجراءات إلا أن هذا لم يؤد إلى منع انتشار الظاهرة
عالميا، والتي عبرت عن نفسها في تراجع أسواق المال في كل من تايلاند
وماليزيا وهونج كونج وإندونيسيا وكوريا وسنغافورة وتايوان كان تراجع سوق
الصين أقل من نظيراتها الآسيوية حيث أعلنت البنوك في الصين أنها لا تمتلك
استثمارات مرتبطة بمشكلات الرهن العقاري الأمريكي، وفي أوروبا وصف
المحللون الماليون الأزمة هناك بأنها أزمة خطيرة تهدد النظام المالي
الأوروبي ولكنها ليست كارثية، وقد تراجعت أسواق السويد وهولندا والنرويج
وبلجيكا والنمسا والدنمارك وفنلندا وانخفض مؤشر فاينانشيال تايمز
البريطاني وداكس الألماني وكاك 40 الفرنسي وڤوستي البريطاني وميبتل
الإيطالي وتوبكس الأوسع نطاقا والذي سجل أدنى نقطة منذ نوفمبر من العام
الماضي 2006 ومؤشر نيكاي الياباني الذي أقفل عند أقل معدل له منذ ثمانية
أشهر، وذلك بعد أن انعكست مشاعر المستثمرين المضطربة بشكل واضح على مؤشر
داو جونز الصناعي الذي اهتز بعنف لينخفض إلى مستويات أدنى من حاجز الـ
13000 نقطة، بينما فقد مؤشر ناسداك نحو 1.7 من قيمته.
مكمن الخلل
لكن أين مكمن الخلل:
فقد شهدت القروض الموجهة لضعيفي الملاءة طفرة في أمريكا خلال الأعوام
الأخيرة ولم يكن هناك ما هو أسهل من الحصول على قرض سكني.
فإذا كانت الجدارة الائتمانية لطالب القرض متدنية أو كان لديه تاريخ
بالإفلاس، فهذا لا يهم. وإذا كان دخله متدنياً إلى حد لا يكفي للتأهل
للحصول على قرض، فكل ما عليه أن يفعله هو محاولة الحصول على القرض من
خلال تعبئة طلب خاص "يصرح فيه عن دخله" ( ويكتفي البنك بذلك وإن كان
يتعين عليه التحقق من بيان الدخل ).
وإذا كان طالب القرض يشعر بالتوتر من أن الجهة المقرضة يمكن أن تستعلم عن
"الدخل المصرح" فكل ما عليه هو زيارة موقع شركة معينة على الإنترنت
ومقابل رسوم مقدارها 55 دولارا سيساعدك المأمورون العاملون في هذه الشركة
الصغيرة ( مقرها ولاية كاليفورنيا ) في الحصول على قرض بتوظيفك على أنك
"مقاول مستقل". وسيعطونك إشعارات بالرواتب لتكون "دليلاً" على الدخل،
وإذا دفعت رسماً إضافياً مقداره 25 دولاراً فإنهم يضعون مأموري الهاتف
الذين يردون على المكالمات ويجيبون أجوبة تعطي عنك صورة براقة إذا احتاج
البنك إلى الاستفسار عن وضعك.
لعل أكثر جانب سقيم بالنسبة لسوق القروض لضعيفي الملاءة في السنوات
الأخيرة هو أن الجهات المقرضة بلغت من السخاء في تزويد القروض للمقترضين
الفقراء حداً جعل القلة القليلة منها فقط هي التي تقوم بالاستفسارات إن
فعلت ذلك أصلاً.
3 أسباب رئيسة وراء تراجع البورصات العالمية
زادت الأمور توترا بعد فشل بنكي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك
المركزي الأوروبي في التخفيف من حدة تراجع المؤشرات على الرغم من ضخ نحو
121.6 مليار دولار لطمأنة المستثمرين ووقف نزيف التراجع، حيث إنه خلال
يوم واحد من التعامل فقد مؤشر داو جونز قرابة 400 نقطة في حين تراجع مؤشر
ستاندرد آند بورز بواقع 150 نقطة.
- العامل الأول.. توسع المؤسسات المالية في منح الائتمانات عالية المخاطر
للشركات والمؤسسات العاملة في مجال الرهن العقاري، والتي لا تتوافر لديها
الضمانات المالية الكافية لسداد التزاماتها تجاه الجهات المقرضة ووصل
الأمر إلى حد معاناة هذه الجهات من عدم توافر السيولة اللازمة لتمويل
أنشطتها.
• العامل الثاني يكمن في عدم قدرة مؤسسات التمويل العقاري على القيام
بعمليات الاستحواذ التي أعلنت عنها الحكومة الأمريكية أخيرا، وذلك بسبب
عدم توافر التمويل اللازم للقيام بهذه العمليات، وهو ما أعطى مؤشرا سلبيا
لأداء الاقتصاد الأمريكي.
• العامل الثالث الذي كان له بالغ الأثر في تراجع البورصات الأمريكية هو
عجز الحكومة عن توفير فرص العمل التي كانت قد أعلنت عنها في وقت سابق،
مما ولد شعورا لدى المستثمرين بأن أكبر اقتصاد على مستوى العالم يمر
بأزمة حقيقية، ومن المعروف أن أسواق المال بالغة الحساسية لمثل هذه
المؤشرات فكان التراجع الحاد في كافة مؤشرات البورصات الأمريكية.
ومن المعروف أن السوق الأمريكية ترتبط ارتباطا عضويا بالاقتصاد الأوروبي
والآسيوي، بمعنى أن الشركات الصناعية في هذه الدول تعتمد بنسبة تتعدى %70
على ترويج منتجاتها داخل السوق الأمريكية، وفي حالة تراجع نشاط الاقتصاد
الأمريكي تعاني هذه الشركات من انخفاض حجم مبيعاتها وتراجع ربحيتها،
وعندما تظهر مؤشرات على هذا التراجع مثلما حدث خلال الأسابيع الماضية
تبدأ البورصات العالمية في الانحدار والتقهقر، نظرا لأن صناديق الاستثمار
ومؤسسات رأس المال تبدأ في التخلص عما بحوذتها من أسهم، وتزداد عمليات
البيع في كافة أسواق المال مما يؤدي إلى تراجع القيمة السوقية للأسهم
وانخفاض أسعارها على المستوى العالمي، أخذا في الاعتبار أن مؤسسات المال
العالمية سواء كانت أمريكية أو أوروبية تحرص على تنويع محافظها المالية
عن طريق الاستثمار في كافة بورصات الأوراق المالية بما فيها البورصات
الناشئة، وذلك لتقليل درجة المخاطر المترتبة على تراجع الأسهم في أي من
البورصات العالمية.
والعاصفة لم تهدأ بعد تواصل اقتلاع مؤسسات أخرى في مقدمتها “المجموعة
الأمريكية العالمية” التي تعد واحدة من أكبر شركات التأمين في العالم
التي بدأت تترنح مع خسارة أسهمها لنحو 61 في المائة من قيمتها.
كما أن أعراض العدوى بدأت تصيب عددا من المؤسسات الأخرى حيث خسر بنك
“واشنطن ميوتوال” 27 في المائة من قيمة أسهمه ونزلت قيمة أسهم جنرال
إليكتريك بنسبة 8 في المائة وتملك الخوف باقي البنوك التي بدأت تضيق
الخناق على عمليات الإقراض مما يهدد المحرك الرئيسي للاقتصاد الأمريكي
المتمثل في الائتمان فيما بلغ الدولار أضعف حالاته أمام الين الياباني
منذ نحو 10 سنوات.
وتراجعت أسهم سيتي جروب، أكبر بنوك أمريكا، بنسبة 15 في المائة ليصل سعر
السهم إلى 24. 15 دولار في أقل مستوى له منذ عام 2002، وتلاه بنك أوف
أمريكا بنسبة 21 في المائة ليصل إلى 55. 26 دولار، وهو أقل سعر له منذ
يوليو/تموز 1982 بعد أن قبل شراء ميريل لينش مقابل 50 مليار دولار، وخسرت
أسهم أمريكان إكسبريس، أكبر شركات بطاقات الائتمان الأمريكية، 9. 8 في
المائة من قيمتها ليصل سعر الواحد منها إلى 48. 35 دولار.
كما هبطت أسهم غولدمان ساكس بنسبة 12 في المائة وتراجعت أسهم جي بي
مورغان تشيس آند كومباني بنسبة 10 في المائة. أما مورغان ستانلي، أكبر
شركات التعامل في الأوراق المالية للخزانة الأمريكية، فقد هبطت أسهمها
بنسبة 14 في المائة.
اختفاء 11 بنكا
وقد أدت الأزمة حتى الآن إلى اختفاء 11 بنكا من الساحة، من بينها بنك
إندي ماك الذي يستحوذ على أصول بقيمة 32 مليار دولار وودائع تصل إلى 19
مليار دولار.
وتوقع كريستوفر والين، العضو المنتدب لشركة أبحاث “تحليلات المخاطر
المؤسسية” أن يتم إغلاق ما يقرب من 110 بنوك تصل قيمة أصولها إلى حوالي
850 مليار دولار وذلك بحلول منتصف العام القادم.
ويصل العدد الإجمالي لمؤسسات المال الواقعة تحت مظلة التأمين الفيدرالي
إلى 1800 مؤسسة تستحوذ كلها على ما يقرب من 13 تريليون دولار من الأصول
والممتلكات .
يذكر أن إجمالي الدين الحكومي الداخلي والخارجي في الولايات المتحدة قد
بلغ حتى الآن أكثر من 11 تريليون دولار. وتأتي الصين في مقدمة الدول
الدائنة للولايات المتحدة حيث قدمت ما يقرب من 450 مليار دولار وتليها
بريطانيا ثم اليابان ثم السعودية.
كما أن العجز في الموازنة الأمريكية بلغ 450 مليار دولار بينما زاد العجز
التجاري عن 65 مليار دولار.
يذكر أيضا أن القيمة السوقية لـ8 مؤسسات مالية عالمية تراجعت بنحو 574
مليار دولار خلال فترة عام واحد فقط كانعكاس للتدهور الذي تشهده الأسواق
العالمية والذي تأثر به القطاع المصرفي والمالي بشكل أكبر.
على أية حال فان الأزمة الراهنة هي في الواقع جزء من أزمات أكبر ضربت
النظام المالي الأمريكي في السنوات الأخيرة وكانت فد بدأت بانفجار فقاعة
“الدوت كوم” إلى ذوبان قطاع العقارات، وانتهاء، الآن، بإفلاس مصارف كبرى
كانت معتمدة على هذين القطاعين.

.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المبادئ الأساسية للحياة, والقيم التي تصنع واقع الإنسان.

ادارة الموارد البشرية الدولية